السبت، 1 يناير 2011

الزخرفة العربية

الزخرفة العربية

انتشرت الزخرفة العربية محمولةً على المخطوطات والقطع الفنية المتنوعة، وأطلق عليها اسم أرابيسك Arabesque، وهو مصطلح يعني النسبة إلى عربي، ولقد اعتُمد هذا المصطلح للدلالة على الأشكال المجردة أو المحورة عن الواقع، والتي يبتكرها الصانع في رسمه أو نقشه أو حفره، مستوحاة من الجمالية العربية. ويقابل هذا المصطلح بالعربية كلمة «الرقش العربي» وفي اللغة رقَشَ تعني زوّق الكلام والصيغ، رسمها محسنة مزينة، أي نمّقها. ويختلف هذا الفعل عن فعل «رَقَنَ» أي زين الكتاب بالرسوم والصور الواقعية المبسطة. والترقين illustration يختلف عن النمنمة[ر].
ينتسب هذا الرسم العربي إلى الفنون التشكيلية الإبداعية ضمن نطاق النزعة التجريدية التي توسع انتشارها مع الحداثوية في هذا العصر، ويعتقد بريون M.Brion «أن التجريدية في الفن الحديث أخذت معينها من الرقش العربي، أي الزخرفة العربية.
استعملت كلمة أرابيسك للدلالة على الخطوط الانسيابية المنغّمة في الرسم التشبيهي، كما فعل ماتيس Matisse المصور الفرنسي، واستعملت في رقص الباليه للدلالة على حركة إحدى الرجلين مشكلة في الفضاء حركة انسيابية متناغمة أيضاً، واستعملت الكلمة في الموسيقى بهذا المعنى كتشبيه لإيقاع النغم بخطوط الرسم العربي.
التجريد تعبير عن المطلق
لم تكن التجريدية في الفن الإسلامي نتيجة التحريم كما يرى بعض الباحثين، بل إن التجريد إرثٌ تشكيلي قديم، ولكنه في الإسلام أصبح أكثر انسجاماً مع العقيدة التوحيدية التي تحذر من رسم الكائنات الحية، خشية مضاهاة الله بمقدرته على الخلق كما في الحديث الشريف «إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله».
اتجه الفنان المسلم بنظرته الحدسيّة إلى الكشف في الرقش عن الجوهر الكوني المطلق الذي لا يقبل التجزئة ولا التباين، ويتم الكشف بإزالة الجوانب الحسية العرضية عن صورة الإنسان وعن صورة الطبيعة على السواء، إذ إن الجوانب الحسية تعوّق الحدس عن إدراك غايته في الجوهر الحق، بل تصرفه إلى التعلق بالمظاهر الواقعية والمكانية، فتجعل الرسم حسياً مرتبطاً بالغرائز والميول وليس بالمثل والقيم.
وتلاقى هذا الاتجاه التجريدي في الرقش العربي مع اتجاه التجريد في الفن الحديث، ولكن، مع اختلاف في المبدأ والقصد، فالتجريد العربي يرمي إلى التعبير عن المطلق، أما التجريد الحديث فهو يقصد إلى التعبير عن «اللاشيء» كما يذكر سوفور Sophor. وكثيراً ما هبط التجريد الغربي إلى مستوى العبث، بينما يتطلع الرقش العربي إلى الجوهر فهو ثمرة التوق الإسلامي.
دلالات الرقش
يرتبط الرقش العربي بالحدس أي الإدراك الحسي، وبالتعالي والإطلاق، ولا يعني هذا أنه فن ديني طقوسي، وإنما هو صيغة من صيغ التعامل مع الواقع، صيغة غير مادية تعتمد على حرية الفنان في قراءة الواقع قراءة حدسية، ونقله بصيغة جمالية مجردة.
وبالمقابل ليس الرقش مجرد عملية تحلية وتزويق، بل إنه حامل لشيفرات رمزية، وبهذا يقول غرابار Grabar: «إن الالتجاء إلى الرقش هو انتقال إلى مستوى القيمة الثقافية للعمل الفني، إذ يلغي العلاقة بين الشيء المرئي ودلالته العادية ومعناه المتداول».
ويكمن وراء الصورة الظاهرية للرقش نسق كامل من الإشارات التي تُعرض تاركة حق التأويل، أي إن ثمة معاني كثيرة في الرقش العربي تنتظر تفسيرها، مما يعطي التجريدية في الرقش قيمة تعبيرية غير محددة.
تبدو دلالات التجريد في الرقش العربي واضحةً في أسلوبين سار الرقش في مسارهما، الأسلوب الأول هو «التوريق» ويقوم على تأويل النبات من أغصان وأوراق وزهور مختلفة الأنواع تأويلاً يصل إلى حدود الصيغ الرمزية، وقد تمادى الفنان للوصول إليها بالخروج عن الواقع للاكتفاء بالصورة الجمالية التي أتقن نسيجها برشاقة وتناسق، وبتكرار الفنان لهذه الصيغ بإلحاح إيقاعي ينتظم نبض الابتهال والتبتل. وكثيراً ما ربط النقاد هذا التكرار «بالذكر الصوفي»، كما يقول بيرابين Biraben: «إن الصيغة المكررة المتخيلة أو المنفذة في الرقش تثير الشعور بأبدية الانطلاقات والعودات ممثلة بذلك علاقة الظاهر بالجوهر، مما يقترب من ممارسة الذكر».
والأسلوب الثاني، ويطلق عليه اسم « الخيط»، يعتمد على الأساس التشكيلي للأشياء، وهو أساس يبدو رياضياً لاعتماده على الأشكال الهندسية، المثلث والمربع والمخمس، ولكن هذه الأشكال تصير في الرقش العربي أوعية لمضامين رمزية لا تخلو من معانٍ قدسية أو صوفية أو وجودية.
وسواء أكان الرقش نباتياً أم هندسياً فإنه يبقى محاولة للتعبير عن ملكوت الخالق والإيمان به، فهو أقرب إلى التبتل الجمالي منه إلى التزويق المجاني.
ولكن إذا كان نظام الرقش الهندسي قد تشابك وفق إسقاطات الأشعة البصرية الكونية، فإن الرقش النباتي يتطلع من خلال رموز الطبيعة، إلى الوصول إلى الفردوس الأرضي والمتعة الجمالية. ويجب أن لا يفهم من ذلك أن الرقش العربي ممارسة صوفية، بل هو رسم يتسامى على النسبية والتحديد والتشبيه، كما أنه ليس ممارسة رياضية علمية، بل هو تشكيلات روحية إبداعية خالصة من التشبيه والتشيّؤ (تحويل الرمز إلى شيء).
وإلى جانب الدلالات المعنوية في الرقش العربي، تقف دلالات جمالية متميزة تؤكد المعنى الأساسي للفن الإبداعي، فهو يعكس مقولات جمالية فنية مثل: الجميل، واللطيف، والرائع، ومقولات قيمية، مثل: البساطة، والنعومة، والشفافية، واللطافة، وثمة مقولات موسيقية كالإيقاع والشاعرية، فالرقش العربي هو لغة خاصة تحمل أعمق المعاني وأرقاها، ثم هو كالشعر يحمل كل خصائص الوزن والإيقاع واللحن.
النجمة في الرقش الهندسي
اعتمد الرقش الهندسي على الأشكال الأساسية المجردة لتكوين نجمة سداسية أو ثمانية أو عشارية، فمن تعارض مثلثين تشكلت النجمة السداسية تعبيراً عن الكون المؤلف من السماء ممثلاً بالمثلث وقاعدته في الأعلى، ومن الأرض ممثلاً بالمثلث وقاعدته في الأسفل.
ومن تعارض مربعين تشكلت النجمة الثمانية، تعبيراً عن الكون المؤلف من مربع يمثل الجهات الأربع، ومن مربع يمثل العناصر الأربعة: الهواء والماء والتراب والنار، وفي كلٍ من النجمتين تمتد الأضلاع متشابكة لكي ترسم أشكالاً هندسية متنوعة بين مجموعة من النجوم المتلاحمة. ويُرى في هذا النسيج المتشابك بل المتداخل تعبير عن موقف الإنسان من عالم غيبي مطلق، عالم متوازن متناغم. ولكن عندما يخرج هذا النسيج عن أن يكون مجرد خيط هندسي، لكي يصبح مساحات لونية من الأحجار الملونة أو الأصبغة، أو من التنزيل الخشبي والصدفي والمعدني، فإنه يتم الحصول على لوحة فنية متحركة جابذة ونابذة، محمولة على أطياف ألوان تتحاور لتؤلف تشكيلاً جديداً.
وعندما يكون هذا التشكيل خلفية لسلسبيل ماء فإن الحركية المستمرة تتجاوز روعة الفن البصري الذي يمارسه فنانو الحداثة اليوم.
وفي تفسير النجمة في الرقش الهندسي يقول بيرابين: «يعاني الرقش العربي (الأرابيسك) همَّ البحث عن الوحدة، ويلاحظ ذلك في التكوينات الإشعاعية (النجوم) فهي إشعاع نابذ وجابذ بوقت واحد، وفي الحالتين فإن هذه التكوينات تنطلق من الجوهر الواحد، وتعود إلى الجوهر الواحد».

بين الرقش والخط العربي
كثيراً ما يدخل الخط العربي في صيغ الرقش، بل ثمة أواصر قديمة بين الخط المُزوي (القائم على شكل زاوية) والرقش الهندسي من جهة وبين الخط اللين والرقش النباتي من جهة أخرى، ويعد الخط العربي فناً تشكيلياً إبداعياً أيضاً، على الرغم من محموله البياني، وكثيراً ما يُرى مع الرقش العربي حروف وكلمات تداخل تكوينها التشكيلي مع الرقش، فأصبحا لحمة واحدة ذات دلالة رمزية أحياناً. وقد تحدث عبد الكريم الجيلي عن دلالات الحروف العربية، كما تحدث ابن مقلة والتوحيدي عن أشكال الحروف وعلاقتها بالتشكيل الفني.
ويقف الرقش في نقطة التقاء الخط العربي بالتصوير، فالخط هو تجويد في رسم الحروف والكلمات التي تحمل معاني محددة، والتصوير رسم لأشكال تمثل حدثاً أو مشهداً أو كائناً، ويبقى الرقش محصلة الفنين، فهو مآل الخط وقد انتقل من حمل المعنى إلى تمثل صورة، ثم هو مآل الصورة وقد انتقلت من حمل الواقع إلى الاندماج بالجوهر.
بين الرقش والزخرفة
انتشر الرقش العربي محمولاً على جدران العمارة وعلى صفحات المخطوطات وعلى سطوح الأواني المنقولة، وهو فن إبداعي محصور بالشكلين الهندسي والنباتي. ومع أن الرقش يزيد السطوح جمالاً ورونقاً، فهو ليس مجرد زخرفة تزويقية، لأنه يعبر عن خصيصة تشكيلية تعتمد الجمالية الإسلامية، وتبقى الزخرفة نشاطاً تشكيلياً يعني التزويق والتنميق حصراً ولا يخص الفن الإسلامي وحده، بل هو شائع في جميع الفنون التطبيقية في العالم، ومن هنا كان لا بد من التمييز بين الرقش والزخرفة[ر] على الرغم من خطوط التلاقي بينهما، ولاسيما فيما يتعلق «بملء الفراغ» في نسيج الزخرفة والرقش، وقد فسر ذلك تفسيراً خاطئاً عندما قرر أحد المستشرقين أنه محاولة للهروب من عبث الشيطان أن يحتلَّ الفراغ في الصورة. والواقع أن سبب ملء الفراغ هوسعي الفنان الرقاش خاصة لتأكيد الصورة المثلى بصيغة جميلة شفافة، فالخط الممتد سرمدياً والمتمثل بالتوريقات، والخيط الهندسي والتكرار، هو خط اللانهاية الذي يرسمه الفكر التوحيدي.
عفيف البهنسي







مراجع للاستزادة:
ـ عفيف البهنسي، الفن الإسلامي (دار طلاس، دمشق 1980).
ـ بشر فارس: سر الزخرفة الإسلامية (القاهرة 1952).
- O.Grabar, The Mediation of Ornament (Princeton Press 1992).
- R.Biraben, Essai de philosophie de l’arabesque. Alger 1905).


الأحد، 26 ديسمبر 2010

الأطباق النجمية.. روائع الفن الإسلامي

الأطباق النجمية.. روائع الفن الإسلامي
أ.عماد عجوة

الفن الإسلامي كان بطبيعته فنًا زخرفيًا بالدرجة الأولى، ويتجلى الطابع الزخرفي في الفن الإسلامي بشكلٍ واضحٍ في استخدام الفنانين المسلمين شتَّى أنواع الزخارف في تزويق منتجاتهم الفنية إلا أنه كان ينحو نحوًا زخرفيًا بعيدًا عن محاكاة الطبيعة.

 وقد بلغ الفن الإسلامي في الزخارف الهندسية مثلاً مرتبة يكاد لا يدانيه فيها أي فن آخر؛ حيث طوَّر الفنانون المسلمون الزخارف الهندسية على أسس مدروسة وابتكروا أنواعًا من هذه الزخارف لم تعرفها الفنون الأخرى.

ومن أخص الموضوعات الزخرفية الهندسية التي امتازت بها الفنون الإسلامية وأصبحت ميزة من مميزاته رسوم الأطباق المتعددة الأضلاع والمجمعة في هيئة نجوم، وقد اعتبرها المتخصصون في الفنون الإسلامية حتى من غير المسلمين أنها أبدع ما ابتكرته قريحة الفنان المسلم.

وقد ظهرت بداية الأطباق النجمية في الفنون الإسلامية في القرن السادس الهجري على محراب مشهد السيدة رقية بالقاهرة والمشيد سنة 549- 555هـ والمصنوع من الخشب والمحفوظ بمتحف الفن الإسلامي بالقاهرة إذ يظهر بمحراب السيدة رقية الطبق النجمي وإن كان لم يزل في دور التكوين إذ يتألف من نجمة سداسية تحيط بأطرافها ست حشوات خماسية الأضلاع.

وبعد ذلك بفترة وجيزة ومع التطور المستمر في شكل الطبق النجمي أصبحنا نشاهده متقنًا إلى حد ما على ريشة المنبر الذي أمر بصناعته السلطان نور الدين محمود بن زنكي سنة 564هـ، ونقله بعد ذلك السلطان صلاح الدين الأيوبي إلى المسجد الأقصى بالقدس، وبعد ذلك انتشرت وحدة الزخرفة بالأطباق النجمية على التحف التطبيقية الإسلامية من أخشاب ومعادنٍ وعاج وخزف وغيرها من صناعات المسلمين، كما استخدمت الزخرفة بالأطباق النجمية على عمائر الإسلام وارتبطت بفن النحت سواء على الحجر أو الجص بواجهات العمائر المختلفة كالمحاريب والمنابر والمآذن وواجهات العمائر وزخرفة الشبابيك أو ما يطلق عليه القمريات.
ويتألف الطبق النجمي من ثلاثة أجزاء رئيسة وهي الترس، ويمثل النجمة المركزية التي تحتل مكان البؤرة أو الشكل المسنن الذي يُطلق عليها أهل الصنعة "ترس" والجزء الثاني يمثل اللوزة وهي ذات أربع أضلاع وترتب بشكل إشعاعي حول النجمة المركزية أو الشكل المسنن "الترس"، وينتج من محيط ذلك هيئة دائرية، أما الجزء الثالث فيطلق عليه أهل الصنعة "” وهي عبارة عن حشوة ذات ستة أضلاع، وهذه الحشوة السداسية الأضلاع ليست متساوية الأضلاع والزوايا، وتوزع هذه الكندات بعدد يتطابق مع عدد اللوزات في توزيع إشعاعي مستمد من الشكل المسنن الهندسي يعطي هيئة دائرية.



http://www.al-bayyna.com/modules.php?name=News&file=article&sid=2832

السبت، 25 ديسمبر 2010

التكرار والتماثل في الفنون الزخرفية الإسلامية

التكرار والتماثل في الفنون الزخرفية الإسلامية
جواد محمد مصباحي

قد كان السعي وراء إيجاد نسق زخرفي يتلاءم مع السكينة النفسية للمتلقي المتوخاة من خلال إبداعات الفنون الإسلامية، وكذا حرص الفنّان المسلم في مختلف التقنيات عند اشتغاله، على تطويع مواده بما يتلاءم مع الرؤية العامة للإطار البنيوي لما يبدعه، والمتمثل في العمل على بلورة صور الجمال الظاهري للقطعة لتكون نفق العبور بالمتأمل إلى الإحساس بالجمال الباطني بين ثنايا نفسه حتى تتلبسه مشاعر الجلال الجمالي.فجماليات المكان أو القطعة/التحفة ضمن هذا المكان ما هي إلا نتيجة لاحتدام قوى داخلية في نفس المبدع:ظاهرها دنيوي/ وظيفي: فالمسجد للصلاة، القبة حل هندسي لإيجاد الفضاء الواسع، الأرابيسك عنصر تكسية تزييني...الخ. كل هذه أسباب ظاهرية سهل على المتلقي معرفتها دون إمعان فكر أو تأمّل. وباطنها أخروي/ تعبّدي: فجمالية عمارة المسجد تحيل إلى الإحساس بالسكينة الروحية، والتأمل في القبة يدفعك للتفكير في الملكوت الأعلى، وما عناصر الأرابيسك إلا إسقاطات لأفعال تعبدية: فالزخارف النباتية بلطفها وبلينها وانسيابها: رحمة؛ والزخارف الهندسية بيبسها وقوّتها: حق ورهبة؛ والخط بالجمع بين الانسيابية والقوة: حكمة.وكأني بهذا الفنان المبدع يعرج على درجات العرفان التعبدي بدءً برحمة ربه به أنْ جعله مسلما ينطق الشهادة بحكم فطرته، ثم ينضبط مخافة ورهبة من وجوب حق العبادة عليه، ليصل مرابط الصفاء والحكمة متأسيا بالصفات الإلهية بحكم المعرفة المطلقة بعد إذلال نفسه بالعبادات ودوام الدعاء. كل هذه أسباب باطنية لا ينجلي استقراءها إلا بعمق التفكير والتأمل الداخلي وأنت أمام التحفة.عود على بدء فتمثيلية الجمال بشقَّيه الظاهري والباطني هي الدافع للارتكاز في عملية التصميم الزخرفيّ في الفنون الإسلامية على مبدإ الرؤية الجمالية الشاملة والمتمثلة في الانطلاق من الجزء/ البعض للوصول إلى الكل. ويمكن حصر مبدأ الرؤية الجمالية الشاملة في عدة بنود دائمة التحقيق خلال عملية التصميم تتجلى في:

 - 1-
احترام النسب والتناسب
عند تحليل كثير من عناصر الزخرفة الإسلامية لن تجد نفسك إلا وأنت محصور بأشكالك داخل عنصر الدائرة، وما الدائرة إلا محيط متناسب بقدر معلوم يبعد عن المركز/"النقطة" أداته الفرجار.النقطة: : وفي البدء كانت النقطة هي وحدة التعبير عن المطلق، عن الكلية، فهي المنشأ وهي المنتهى، هي الكل الذي لا أجزاء إلا به ولا انطلاق إلا منه ولا رجوع إلا إليه. وكأن الفنان بذلك يمثل عقيدته المبنية بالأساس على التوحيد المنطوق بقول "لا إله إلا الله"؛ فـ"لا" النافية لما قبلها إجمالا والناصة على ما بعدها مطلقا تحيل إلى سببية الوجود إلاّ لله تبارك وتعالى؛ فلا وجود إلا به جل جلاله هو الكل وهو المطلق. فكل مخاض للإبداع الزخرفي في الفنون الإسلامية يبدأ بهذا الجسم الذي حتْما لا يعبر عن العدم ولكن عن الخلق الفني والوجود الزخرفي، وكذلك عن نهايته. ومع التكرار المنتظم لهذا العنصر في اتجاه واحد كان "خط".الخط: فما الخط؟ هو المقدار المعلوم للابتعاد عن نقطة المركز لينتهي كذلك بنقطة، وبحركة انسيابية ليّنة رحمانية على نفس القدر المعلوم ننطلق لنعود للبداية وكانت "دائرة".الدائرة: فما الدائرة؟ إذا كانت النقطة من وجهة النظر التشكيلية/الرسومية يمكن التعبير عنها أداتيا بطبعة قلم أو فرشاة في حركة خفيفية منتظمة هي جسم معتم ذو كثافة في منتهى الصغر حجميا، فالدائرة ما هي إلا تكبير لهذا الجسم مع تلاش في الإعتام والكثافة الداخلية لتكون جسما شفافا محصورا بردة الفعل الحاصلة من الحركة الانسيابية الرحمانية للخط بالمقدار المعلوم على الواقع المحسوس.وهي بيئة الإبداع للأشكال الأساسية في فنون الزخرفة الإسلامية؛ فمن خلال حركات هندسية مدروسة داخل هذه الدائرة بين مركزها ومحيطها محكومة بقواعد جبرية هندسية، نحصل على المثلث، المربع والخماسي، وهي النماذج الأولية لبنيات التشكيل والتصميم الزخرفي، سواء بشكل انفرادي وما يترتب عنها من علاقات هندسية زحرفية، أو من خلال تكرار الشكل الواحد وتداخله وما يترتب عن ذلك من تركيبات بنيوية. وكذلك يمكن الجمع بين هذه الأشكال الأولية في بيئة واحدة لتصبح زخرفا قائم الذات أو تخطيطا ناظما مركّبا يمكن من استنباط زخارف متنوعة.فالاحتكام إلى شكل الدائرة في بنية التصاميم الزخرفية سمح للفنان المسلم بخلق أشكاله خاضعة لنسب معلومة وذات تناسق بنيوي، وكأنه يدلل من خلال إبداعاته على قول الرحمن تبارك وتعالى ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾(القمر:49).

 - 2-
توزيع العناصر
إذا كان الاشتغال في إنجاز الزخارف على الدائرة كشكل أساسي أدّى إلى احترام النسب والتناسب في الإخراج الفني -مما يدفع بالمتأمل إلى الانغماس في لحظات تذوق جمالي كله انبساط وسكينة وراحة نفسية كردة فعل على التوازن المظهري للتحفة- فإن توزيع العناصر ضمن الكتلة الكلية بشقَّيه: التوزيع الكمّي، والتوزيع الكيفي ما يزيد القطعة الفنية إلا رسوخا في البعدَين الجماليين الظاهري بالتوازن المرئي، والباطني بالاستقراء التأملي الانكماشي المعكوس، أي الدخول من الوحدة الفنية الكلية، إلى جوهر الفرد الجزئي بين التفاصيل وتحصيل كنهه. وينقسم هذا التوزيع إلى شقين:



أ- التوزيع الكمي
ويتجلى من خلال تحكم الفنان المبدع في الكتلة والفراغ، على أية مادة من مواد الاشتغال وبتقنيات مختلفة.فإذا تطرقنا بالقراءة لنماذج الزخرفة النباتية (فن التوريق)، -وهنا أفتح قوسا لأحدد عناصره المكونة بشكل إجمالي دون الدخول في متاهات اختلاف التسميات حسب البلدان والتقنيات-، لنكوّن فهما قاعديا لقراءتنا هذه. فنجد أن هذه العناصر هي:المسار: -وهو بمثابة الهيكل البنائي للوحدة الزخرفية- يأخذ في أغلب الأحيان أشكالا لولبية يمكن أن تكون مفردة أو مزدوجة، متعانقة أو متنافرة، تسرح بالمتأمل في تيه سرمدية الوجود اللانهائي. فلا وضوح لمركز البداية ولا استجلاء لنقطة النهاية، وكأن الفنان بمساراته هذه يعبّر عن معاناته وهو يعْبر هذا التيه لينتشي بنشوة الإبداع والخلق.الورقات: -هي أجسام الوحدات المتفرعة من خلال هيكل المسار- تأخذ عدة أشكال حسب مادة وتقنيات الاشتغال، وكأنها انفتاح لهذا المسار في حركات توالدية، أخذت أصولها أولا من الطبيعة كتأويل لرياحين الجنة في العالم الأخروي، ثم هذّبت وتحورت لتصبح رشيقة المظهر تندمج مع المسار في كتلة واحدة فتزيد المتأمل تيها ونشوة وهو يحاول فكّ طلاسم تشابكاتها وترابطها.فالاحتكام في البناء الزخرفي لهذا الفرع (الزخرفة النباتية) يكون مبدئيا لهياكل المسارّ داخل فضاء اللوحة، يحتم على الفنان توزيعا كمّيا محدودا لوحداته تحكمه خلفية التشكيل حسب المادة والتقنية، وهي الفراغ الموازن لكتلة البناء الزخرفي (مسار زائد ورقات).وفي الزخارف الهندسية (فن التسطير) نجد أن التوازن الكمّي فيها يتضح جليا من خلال قراءة أَسميتها "القراءة الترابطية"؛ فالمتأمل لا يمكن أن يستوعب شكلا معيّنا دون أن يقرأ مجاله المحيط، فمثلا لا يمكننا أن نقول هذه نجمة ثُمانيّة إلا إذا حددنا محيطها وهو ثمانية رؤوس متساوية متقايسة، وكذلك العكس. فالأشكال شفافة إذا كان محيطها معتمًا، ومعتمة إذا كان محيطها شفافا، وكأنك في رحلة دائمة بين الظاهر والباطن، بين القبض والبسط.أما وحدات الخط العربي فتختلف مقاييس التوزيع الكمي في تصميماتها حسب أنواع الخطوط المتعددة، لكن عند تنفيذ هذه الوحدات بالتقنيات المعمارية يتجلى التوازن الكمي بها كما في الزخارف النباتية من خلال لعبة التبادل بين الأرضية/الخلفية والتشكيل.

بـ - التوزيع الكيفي
بالإضافة لما ذكر بخصوص التوزيع الكمي في شتى فروع الزخرفة، نجد التوازن الجمالي في التحف الإسلامية من خلال بند توزيع العناصر يرتكز كذلك على مبدإ التوزيع الكيفي من خلال لعبة التوازن اللَّوني وتوزيعاته في العناصر، وكذا موازنة متلازمة "النور والظل".فقد حرص الفنان المسلم -ولا زالت التقاليد الفنية جلية راسخة في هذا الباب- على توزيع الألوان بشكل متوازن مع انعكاسات الظلال. وهذه تركيبة تناغمية توافقية بين الإحساس بثقل الكتلة الزخرفية، سواء كانت ألوانها حارة أو باردة، وكذا الشعور بشفافية الظلال وإعطائها وزنا في التعبير عن الفراغ حسب التقنيات. ويمكن استجلاء ما ذكر بشكل قوي، والإحساس بتوازن الكتلة والفراغ في الأعمال الزخرفية الإسلامية من خلال إمعان التأمل في أيّة لوحة من لوحات آيات الجمال المعماري في العالم الإسلامي. وهنا يحضرني تعبير بلاغي في هذا الباب لعلَم من أعلام استقراء مفردات الفن الإسلامي: "تيتس بوركهارت" في مقالة له بعنوان "أسس الفن الإسلامي" حيث يقول: "فالمادة الخام -إن جاز التعبير- تم تخفيفها في العمارة الإسلامية وتحولت إلى شفافة بسبب الزخارف النباتية وأشكال المقرنصات التي حفرت فيها والتي تقدم آلافا من الإمكانات للضوء، مضيفة على الحجر والجص صفة الجواهر الثمينة. فالأرْوقة في فناء ما في "قصر الحمراء" على سبيل المثال، أو في مساجد معينة في المغرب العربي، قائمات في صمت تام، وتبدو في الوقت نفسه وكأنها منسوجة من تموّجات من النور، أو أنها نور يتبلْور وكأن صميم جوهرها ليس حجرا بل هو النور الإلهي، العقل الإلهي المبدع الذي يكمن إبداعه الخفي في كل شيء".

 - 3-
الربط بين المساحات الزخرفية والأسطح
لقد مكنت شساعة رقعة التشكيل الزخرفي وكثرة استنباط العناصر، وكذا التركيبات البنيوية للزخارف الإسلامية حسب الرقعة الجغرافية للعالم الإسلامي، هذه الكثرة التي يمكن إفراد مكوّناتها على عمر الحضارة الإسلامية وهيكلتها حسب معطيات التاريخ، ولا زال نبضها لم ولن يخفت مادام هذا العالم الإسلامي محافظا على نظام الصنعة بنظمه، كمكوّن أساسي في الشخصية الإسلامية... أقول مكنت من إعطاء الفنان المسلم إمكانات كثيرة في تكسية الأسطح والمساحات بما يتلاءم معها من عناصر زخرفية دون نشاز في البلورة الجمالية للقطعة/التحفة، بل الأجمل من ذلك أنه كلما كان هنالك تعقيد معين في السطح المراد زخرفته يكون مدعاة وسببا في خلق فني جديد وابتكار زخرفي حديث يضاف لفهرس مكتبة الزخارف والتصاميم الإسلامية حتى يكون مرجعا لما بعد، تتناقله أيدي الصناع المهرة دون حكر على أحد.وكذلك يمكن تطويع تصاميم صنعة ما لتلائم أخرى في تلاقح بين التقنيات يظهر جليا في مكونات الزخرفة المعمارية خاصة، من أعمال الرخام والخشب، والجص والزليج..الخ. وما يتمازج بين تقنياتها من مكونات زخرفية.

 - 4-
الوحدة في الكل والكل في الوحدة
بالارتباط مع بند التناسب المذكور أعلاه تأتي العلاقة الرياضية بين الجزء والجزء، وكذلك الجزء والكل في كيانات الزخارف الإسلامية كمبدإ أساسي للتقييم والإحساس الجمالي لدى المتأمل.هذه العلاقة أمكن التعبير عنها من خلال خاصية التكرار والتماثل في الابتكارات الزخرفية؛ فالفنان المسلم لا يوجد الجملة التعبيرية زخرفيا ككيان واحد متكامل، بل هي أولا جوهر فرد غير قابل للتقسيم أو التجزيء، وبفعل عمليات التكرار والتماثل المحكومة بالعلاقات الرياضية المنطقية، تصبح هذه الوحدة البسيطة كيانا أكبر ذا قيمة جمالية أشمل. هذا التواتر في الوحدات البسيطة والتناسق يدخل المتأمل بإيقاع موسيقي متراكب يتجاوز البساطة إلى التعقيد في رحلة من الجمال الظاهري (الجمال لأجل الجمال) إلى الإحساس بسمو المشاعر وصعودها في معارج الإجلال الجمالي، فيحس مقدار وجوده النسبي ضمن دائرة الكون كوحدة ترتبط مع الوجود المطلق للخالق تعالى القائل وقوله الحق ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾(الحديد:3-5).وكانت "نقطة" فـ"خط" ثم "دائرة"، وكأنك تلف بعبارات التسبيح "سبحان الله" و"الحمد لله" داخل دواخل النفس والروح في استظهار للصفات الإلهية يمكن استجلاؤه من خلال التأمّل العميق المسلّح باليقين والفهم الصحيح لعناصر مبادئ التصميم الزخرفي في الفنون الإسلامية كركيزة من ركائز الإحساس بجلال ديننا الحنيف وعظمته وجماله.


مجلة "حراء" العدد الثامن – يوليو – سبتمبر 2006

ترحيب

    يا نفس لا تقنطي من زلة عظمت ******* إن الكبائر في الغفران كاللمم